اكبر عملية احتيال علمية في التاريخ المعاصر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
29/12/2009 06:00 AM
GMT



غالبا ما يخرج مشاهد برنامج (هورايزن)في قناة BBC الثانية بانطباع بان هذا البرنامج، العلمي، المهم، يعرض بنبرة درامية او ميلودرامية. ولم تخل هذه الحلقة، التي اقدم عرضاً لها في السطور التالية، من هذه الميلودرامية. لكن الموضوع يتسم باهمية فائقة، والحق يقال: انها قصة رجل يقف وراء اكثر الاكتشافات العلمية اهمية. لقد بدأ إنجازه ثوريا الى حد انه كان من شأنه ان يضعنا على عتبة عالم جديد مذهل في آفاقه. عالم يقدم الحلول لكل مشاكلنا تقريبا، ويحقق لنا اليوتوبيا التقنية، او ربما على العكس قد يلغينا من الوجود ويسبب انقراض كل شيء على كوكبنا... هذا العالم العجيب كان يمكن ان يتحقق في مراحله الاولى على يد العالم جان هندريك شون hendrik schon، الذي نعته احد زملائه بانه كان على مفترق طريقين، بين ان يمنح جائزة نوبل او ان يدخل السجن.
هذه الثورة العلمية الموعودة تقتحم عالم التكنولوجيا الدقيقة (nanotechnology): تكنولوجيا آلات تصمم ذرة ذرة وجزيئا وجزيئا. انها تكنولوجيا مجهرية، تحت مستوى البصر، تكنولوجيا النانوبوت (nanobot ) (التكنولوجيا اليرقانية، وبالتالي الدقيقة). انها اشبه بالكائنات الدقيقة القادرة على التكاثر وتلبية رغباتنا. لكنها والحالة هذه ستصبح اشبه بسرطان غير بايولوجي يمكن ان يلتهم العالم الطبيعي، ويخلق المزيد من النانوبوتات. وتلك احدى المخاطر التي تستدعي الحذر منه.
في العام 2000 شغل العالم الفيزيائي اللامع جان هندريك شون منصب باحث في مختبرات شركة بيل الامريكية، التي تعتبر اعظم مركز للبحوث في العالم. وهو عمل لا يحظى به اي كان. ذلك ان مختبرات بيل معروفة منذ 1925 باعداد علماء قمينين بالحصول على جائزة نوبل (ولها سجل مشّرف في ذلك). وبالفعل كان هندريك شون اصبح اسطورة منذ تخرجه من الجامعة تقريبا. وفي العام 2001 بدأ شون عمله الذي كان من شأنه ان يحقق له المجد، ويضعنا على قاب قوسين من اليوتوبيا، او عالم النانو تكنولوجيا المذهل. فقد اخذ على عاتقه التصدي لما يعتبره البعض اكبر خطر يهدد الثروة العالمية: تعطل قانون مور. وبالفعل، ان تعثر او تعطل قانون مور يعتبر اليوم اكبر خطر يهدد اقتصاد المجتمع الحديث. وما لم نحافظ على ديمومة هذا القانون فاننا سنواجه دمارا اقتصاديا. لكن ما هو قانون مور؟ هذا القانون ببساطة، يتعلق بذلك الشيء الدقيق الذي يتحكم في مصير حضارتنا المعاصرة، نعني به رقاقة السيليكون silicon chip. فلا ينبغي ان ننسى ان هذه الرقاقة الدقيقة جداً هي التي حققت ثورة علمية لا مثيل لها في عصرنا الحديث. وبفضل تحسن صناعة هذه الرقاقات السيليكونية يحافظ الاقتصاد العالمي على عافيته. بيد ان البعض يعتقد ان قانون مور لا يضمن التطور المطرد في صناعة الرقاقات، وبالتالي قد يواجه العالم ركودا وكسادا في الاقتصاد. وجوهر المشكلة يكمن في رقاقة السيليكون، التي تتألف من الملايين من العناصر الدقيقة التي تتحكم في الكومبيوتر، اي الترانزستورات. فكلما ازداد عدد الترانزستورات في الرقاقة، اصبح الكومبيوتر اكثر كفاءة. ويفيد قانون مور ان قوة الكومبيوتر تتضاعف كل ثمانية عشر شهرا. وبفضل ذلك تحقق نمو اقتصادي لم يسبق له مثيل. بيد ان البعض يعتقد ان كل هذا التقدم موشك على التوقف. وجوهر الاشكال يكمن في مبادىء الفيزياء. ذلك ان هناك حدودا، على ما يبدو، للحصول على اصغر رقاقة سيليكونية قبل ان يتعطل مفعولها. وما لم تتقدم صناعة الرقاقات الاصغر فان الاقتصاد العالمي سيواجه ركودا لا مفر منه. من هنا بدأ العلماء يفكرون في مادة اخرى غير السيليكون. وهذا هو ما يومئ اليه قانون مور. واليوم تصرف البلايين لمحاولة اعتصار اكبر قدر من مادة السيليكون. لكن هناك حدوداً لمادة السيليكون هذه، كما اسلفنا.
هنا اقتحم هندريك شون الساحة، مؤكدا ان الحل لا يأتي عن طريق السيليكون، بل شيء آخر يختلف كثيرا: ترانزستور يصنع من جزيئات عضوية، جزيئات كاربونية. وفي واقع الحال ان كل شيء من حولنا تقريبا يتألف من مادة الكاربون: الحشائش، والاشجار، والاطعمة، وحتى مادة السيلوفان التي نغلف بها الساندويشات، والعلب التي نضعها فيها. ومن بين الاسباب المهمة التي تدعو العلماء الى التفكير في صناعة الترانزستور من الجزيئات العضوية، وحجمها الدقيق فهذا من شانه ان ييسر مهمة توضيب العديد من هذه الجزيئات في رقاقة الكومبيوتر، حيث نحصل على ملايين الترانزستورات في هذه الرقاقة، وكل منها تحتوي على عشرات الآف من الذرات.
وكان هم هندريك شون ينصب في الحصول على هذه الجزيئات العضوية التي تنطق بلغة الكومبيوتر. والترانزستورات ترحل هذه اللغة الى عالم الكومبيوتر. انها تستعملها لارسال رسائل لتصل الى المكان المناسب. وهذه الترانزستور تتحكم في كل شيء، من التكييف الهوائي في الدوائر والمنازل الى الاقمار الصناعية. لكن احدا لم يتوصل حتى لجعل الجزيئات العضوية الدقيقة تتصرف مثل السيليكون. ومن بين من حاولوا ولم يوفقوا كان بول ماك ايرين PAUL Mc EUEN من جامعة كورنيل (نيويورك ) اما على يدي هندريك شون فقد بدا هذا ميسورا. فقد دخل في حسبان شون ان الحل يكمن في الصبغة العضوية. وفي عام 2001 صنع طبقة من هذه الجزيئات الصبغية لتتجمع في دائرة معينة. كان يأمل انه عندما يمرر فيها تيارا كهربائيا فانها ستتصرف كترانزستور تقليدي. لكن اية تجربة سابقة على جزيئات عضوية لم تتمخض عن مثل هذه النتيجة. اما تجهيزات شون فقد كانت كاملة. وجاءت النتيجة على الفور انها بصمة ترانزستور بالتمام والكمال. ويبدو ان شون حقق اول خطوة لتجاوز قانون مور. ونشر بحثه في اشهر مجلة علمية (nature). وسرعان ما احدثت ورقته العلمية ضجة. فلقد حقق شون الحلم الذي كان يشغل بال العديد من العلماء، ذلك الحلم الذي يشحن الاقتصاد العالمي بالحيوية والطاقة. ولسوف تصبح مصانع السليكون ذات الكلفة العالية من مخلفات الماضي. وستصبح كلفة الجزيئات العضوية، مثل صبغة هندريك شون لصنع رقاقات الكومبيوتر عالية الكفاءة بازهد الاثمان. وهذا يعني انها ستتوفر في كل مكان. انه عصر اليوتوبيا التقنية، حيث يكون بوسع المرء حياكة مثل هذا الكومبيوتر في قميصه، كما تذهب مخيلة ايان بيترسون: فبعد عشرين او ثلاثين عاما من اليوم، كما يقول، سيكون بوسعي ارتداء قميص سحري ينبئني بكل ما يمكن ان اتعرض اليه، بما في ذلك حوادث الاصطدام.. وبوسع قميص ان يخبر شرطة الطوراىء وهي في طريقها الي بتفاصيل عن وضعي لكي تكون مجهزة بكل وسائل العلاج... وسيكون بوسع الكومبيوترات ذات الكفاءة العالية حل المسائل التي بقيت تتحدى العلم، كالتنبؤ باحوال المناخ. وحتى ابعد من ذلك، فقد تقتحم الترانزستورات الجزيئية عالم التكنولوجيا الدقيقة، ويكون بوسعها العمل في نطاق الذرات والجزيئات. وسيكون بوسع العلماء حث الجزيئات على صنع كومبيوترات دقيقة تستطيع التوغل في اجسادنا. ثم ان كومبيوترات جزيئية كهذه يمكن ان تتصل باية نقطة اشتباك عصبية في ادمغتنا. وسيكون بوسع الناس قراءة افكار بعضهم البعض الآخر!
لكن سحر اكتشاف هندريك شون قد لا يتوقف عند هذا الحد فلان هذه الترانزستورات مصنوعة من جزيئات عضوية، فان بوسعها ان تتكاثر كالحياة. وسيكون بالوسع برمجة هذه الآلات الدقيقة الذاتية التكاثر للتصدي لكل خلية مريضة في الجسم، وتقضي على خلايا السرطان.
لكن هناك وجها آخر للعملة. ففي العقود القادمة، سيمكن شن حروب يستعمل فيها النانوبوتات، كما يقول جون الكساندر (مستشار في العمليات الخاصة في الولايات المتحدة ). سيكون بوسع النانوبوتات ان تختفي في اماكن على مدى اعوام وترسل معلومات عن الاعداء... وسيمكنها ان تبرمج لتعرف من تهاجم: بوسعك ان توجهها بدقة بحيث انها تهاجم اناسا بمواصفات معينه. لكنها قد تنقلب على الساحر ايضا. فهل يمكن السيطرة عليها ؟ فمثل هذه النانوبوتات المتكاثرة قد تلتهم الاخضر واليابس ايضا، وقد لا يكون البشر بمنجى منها.
لكن البعض يعتقد ان الانقراض عن طريق النانو تكنولوجيا بعيد الاحتمال. لكنه يبقى هاجسا يؤرق الكثيرين. وعلى اية حال، صار البعض يفكر في نانو تكنولوجيا واقية، كالمناعة الموجودة في الجسم الحي.
ومع ان مثل هذه الآمال والهواجس لم تدخل في حسبان هندريك شون، الا ان اكتشافه من شأنه ان يكون بمثابة خطوة نحو مثل هذا المستقبل.
مع ذلك حدث شيء لم يخطر على بال احد. فذات صباح استيقظت البروفيسورة ليديا زون sohn، التي تعمل في واحدة من اعظم جامعات الولايات المتحدة، لتجد في انتظارها رسالة على جهاز التلفون. جاءها الصوت المسجل يقول: ليديا اليك الواجب المدرسي الاتي، القي نظرة على ورقتي هندريك الآتيتين. ومن خلال نبرة المتحدث، استنتجت ليديا ان وراء الاكمة ما وراءها. كانت هاتان الورقتان هما الكلمتان العلميتان اللتان نشرهما هندريك شون في مجلتي Nature & science العلميتين.
كانت المقالتان تتحدثان عن تجربتين مختلفتين. احداهما عن تجربته الجديدة على الترانزستورات الجزيئية، وقد اجريت في درجة حرارة الغرفة. والاخرى عن الشيء نفسه لكن في حدود مئتي درجة تحت الصفر. ولدى مقارنة المخططين في الورقتين وجدتهما متماثلين تماما. فكيف امكن ذلك مع ان التجربتين مختلفتان؟ ان هذا من باب المستحيلات وبعد ان اتصلت بصديقها بول ماك اوين، اتفقا على احاطة مجلة Nature علما بذلك. ولدى المقارنة تبين لهيئة تحرير المجلة ان هناك شيئا غير طبيعي. وبعد المراجعة تم التأكد من (ان هناك شيئا نتنا في الدانمارك)، على حد تعبير ليديا زون، مستعيرة كلمات هاملت. ادخل زملاء آخرون على الخط، فتبين حقا ان هناك رائحة نتنة.
"لم تبق شركة بيل على جهل بالموضوع. فقامت من جهتها باجراء تحقيق حوله. واتصل علماؤها بزملائهم، وحاوروا هندريك شون" ايضا. فوجد هذا العالم، الذي كان مرموقا يوما ما نفسه في وضع لا يحسد عليه بالمرة. بل خذلته حتى القدرة على الكلام. فقد توصل التحقيق الى ان شون تصرف بتهور وحماقة، ولفق عمدا بعض المعطيات. وعندما سألته لجنة التحقيق عن المواد الاولية التي استند اليها في التوصل الى اكتشافه المذهل، اكتشفت انه مسحها كلها من الكومبيوتر. وهكذا اتضح ان الطفرة التي حققها كانت مفتعلة... وطرد هندريك شون من عمله في شركة بيل... وبقي الامل في حل قانون مور معلقا.